بعد خمس وعشرين عاماً من الأسر في معتقلات الاحتلال، يواصل محمود العارضة الحلم الإنساني العفوي حين يخرج من وجع الوقت البطيء يحمل علبة عسل كهدية لوالدته قادماً من تحت الأرض عابراً تضاريس البلاد على أمل لقاء الأم الصابرة ليقدم لها الهدية ويقبل يديها وجبينها العالي.
هذه ليست مجرد مخيلة خصبة أو بلاغة استثنائية للتعبير عن دلالة الفعل الإنساني في البطولة النضالية ، فمعجزة انتزاع الحرية للأبطال الستة فجر السادس من أيلول عام ٢٠٢١ والتي قادها محمود العارضة ما زالت تفصح عن المزيد من التفاصيل في ثناياها المشحونة بالكرامة والكبرياء.
اليوم السابع عشر من أيلول - وبعد أن تمت إعادة اعتقال أربعة أسرى محررين هم زكريا ويعقوب ومحمد ومحمود - يرسل محمود العارضة عبر المحامي رسلان محاجنة رسالتين، واحدة إلى أمه والثانية إلى الشعب الفلسطيني.
نقرأ الرسالتين وفي داخل كل منا يتخذ الشموخ وجه محمود العارضة ورفاقه الأبطال ويصبح للكبرياء ملامح أكثر دقة بين الكلمات وتتضح معان الألوان أكثر على قماش العلم الوطني.
كأن الوقت يختار الأحداث بعناية فائقة، وقت مناسب جداً كي تصل هذه الكلمات إلى حيث ينبغي لها أن تصل في الأفئدة التي تقاوم الإحباط اليومي بالكثير من التفاؤل والأمل.
يكتب محمود العارضة الرسالتين مدركاً أنهما تحملان في طياتهما بيان حرية لم تفقد مسارها في التاريخ ولم تقع فريسة المتاهة السياسية المعقدة، حرية مصقولة بعناية في الوجدان الشعبي، صقلتها التجربة والحياة اليومية وصمود عفوي يندفع أحياناً كموال، كأغنية ونشيد في الاحتفالات والأعياد.
نقرأ الرسالتين مجدداً لنجدنا بكامل ملامحنا التي حاولت أن تخفيها جدران الاسمنت العازل والأسلاك الشائكة والحواجز العسكرية.
هناك عند تخوم الضوء النابع من كلمات في الرسائل نجدنا متحلقين كما في الأعراس الشعبية، نحتفل بكل بساطة بصانع أمل خفي في دواخلنا المتعبة.
أمل يكتبه محمود العارضة - رغم التعب - إلى والدته الصامدة وإلينا نحن الذين أصبحنا مؤخراً أكثر التصاقاً بشاشات الهواتف الجوالة بحثاً عن المزيد من مسببات الأمل في ثنايا الأخبار.
نقرأ الرسالتين للمرة الثالثة ...
فتبدو المفارقة الصاعدة من وحي التاريخ وقصائد الشعر المتجددة كما المعجزات ...
كأن الرسالتين تعكسان الترجمة الفعلية المعاصرة لقصيدتي محمود درويش "بطاقة هوية" والمعروفة "سجل أنا عربي" من ديوان "أوراق الزيتون" الصادر عام ١٩٦٤.
وقصيدة "إلى أمي" والمعروفة "أحن إلى خبز أمي" من ديوان "عاشق من فلسطين" الصادر عام ١٩٦٦.
محمود العارضة كتب عن سهل عرابة وبيسان والناصرة، عن هذا الشعب الممتد من أم الرشراش إلى طبريا والخالصة، عن القرية والمدينة وعروبة الهوية.
تماماً كما فعل محمود درويش في سجل أنا عربي.
محمود العارضة كتب عن حنين للأم الصابرة الصامدة، تماماً كما فعل محمود درويش في قصيدة إلى جندي: حين هتف بكل ما صدره من هواء البلاد: أحن إلى خبز أمي.
ماذا سيقول الجندي عن تلك المفارقة بين زمنين تجاوزا النصف قرن في المدة الفاصلة بينهما وما زالت الروح تنبض بذات النبض العصي على التدجين في مختبرات علوم الاجتماع والأدب والفكر والسياسة العسكرية؟ ...
محمود درويش ومحمود العارضة وجهان من بلادي
يقدمان صوراً متجددة للنضال الوطني في الشعر والنثر والرسائل ...
صور كهذه سيخلدها التاريخ بأحرف من نور، كجزء أصيل من مسيرة شعب نحو الحرية ...
هكذا تتم كتابة التاريخ الوطني من نبض حي لا يعرف الهزيمة رغم مرور الزمن ...
فالحاضر حين يخاطب التاريخ أو العكس ضمن رموز إبداعية ندرك أن علبة العسل عند محمود العارضة كرغيف خبز وفنجان قهوة عند محمود درويش ...
كلاهما يحتضنان وطناً في التفاصيل ...
وحين يمتزج كل هذا بين كفي أم يتوهج فينا أكثر المعنى المباشر للحرية ...
المجد للأمهات الصابرات ...
العاليات فوق هاماتنا كقمم أشجار السرو الشامخة
الصامدات كوطن فوق خارطة الوطن ...